bader alaqad's profile

{ليلةٌ في طريقِ الهجرة.. مقال من وحي الواقع}

{ليلةٌ في طريقِ الهجرة.. مقال من وحي الواقع}
بقلم: بدر أنس العقاد
رنّ جَرَسُ الهاتف المُنتظر عصرَ ذاك اليوم، حيثُ كنا مجتمعين كعادتِنا في غُرفةٍ من غُرَفِ الفندقِ التي قمنا باستئجارها لمدةِ أسبوعٍ كاملٍ حيثُ لا دخول أو خروج، حرصًا على سلامتِنا.
تعليمات سريعة تصدُر من "المُهرّب" مفادُها "تجهزوا لرحلتكم بعد قليل، غير محملين بالحقائب الكثيرة".
ألقينا النظرات الأخيرة على جهوزية الحقائب بعد أن ضغطناها لتقليل عددها، وألقينا ببعض الأغراض التي بإمكاننا الاستغناءُ عنها، بُرهاتٌ من الزمنِ وجاءت الإشارةُ الثانية للنزول والاستعداد للخروج من الفندق من "الباب الخلفي"، بعيدًا عن الأنظار، لنتسلل واحدًا تلوَ الآخر، باتجاه السيارة المتواجدة في زاوية شارعٍ فرعي بين العديد من السيارات، والمفتوحةِ بانتظارنا، ركبنا فيها بسرعة البرق، وخفة القدم، لنَنطلق بين الشوارع والأزقة، بعيدًا عن أنظار "الشرطة".

[بين الأزقة والغابات]
تسيرُ السيارة فترةً من الزمن، حتى تصلَ لمنطقةٍ وكأنها طرفٌ من أطراف المدينة، لنجِدَ السيارة الثانية بانتظارِنا، وبضِعفِ السُّرعة السابقةِ، وبنفس خفة القدم، انتقلنا إلى السيارة الثانية، ولكن بضِعف عددِ الرُكاب، ونصف الحقائب، لتُقِلَّ السيارة المخصصة لأربعة ركاب ما يزيد عن 10 ركاب.
انطلقت السيارةُ مسرعةً باتجاه الخطوة التالية، ساعاتٌ من الزمن بين الشوارع الضيِّقة، والطُرُقات الرملية، والأشجار العالية، والغابات الساكنة، وتجاوز الرادارات الأمنية، حتى وصلنا ليلاً إلى منطقةٍ شبه خلوية، إلى "فندقٍ" مُجهزٍ مسبقاً للالتقاء والانطلاق .
ساعاتٌ أخرى من الزمن قضيناها، إلى أن جاءت الإشارةُ بالتحرّك، كما صارت العادة فردًا فردًا بسرعة وخِفة من باب الفندق إلى السيارة ذات العشرة رُكاب.

[في ظلامٍ موحش]
انطقلت السيارةُ.. فترةً من الزمن حتى وصلنا لمنطقةٍ خلويةٍ لا نرى فيها أنفسنا في ظلامٍ دامس، وبتعليماتٍ من المُهرب المُرافق أن هرولوا خلفي كالقطار، فكانت هرولة في الظلامِ الدامس، بين الأشجارِ الصغيرة، والأشواكِ المتناثرة، والطرقاتِ الوعرة، على أصوات الليل الموحش، البارد، وترقُّبِ نباح كلابٍ قريبة، برهةٌ من الزمن حتى وصلنا إلى تلك الغرف المهجورة.

[شدّةُ البرد]
كانت ليلةً باردةً، اشتدّ في هذه اللحظات بردُها، تجلسُ المجموعةُ الأولى في الغرفة المهجورة، يُمنع إصدار الصوت، الضوء، الدخان، الحركة.
ما يزيد عن ساعتين من حالة التأهب والترقب، في بردٍ قارس، لم تقاومْه كثرةُ الملابس التي يرتديها كل واحدٍ منا، حتى نام البعض من شدّة التعبِ وطولِ السكون.

[داخلَ القبوِ المهجور]
ومع ساعات الفجر، جاءت الإشارة السريعة، "هيا تحركوا سريعًا واتبعوني"، دقائق بين الشجيرات حتى دخلنا قبوًا مهجوراً.
كنا رجالاً، نساءً، أطفالاً، كبارًا، صغارًا، نزيد عن ثلاثين شخصًا، ننتظر مجتمعين في هذا المكان المُظلم صاحبِ الرائحةِ الكريهة، قضينا فترة ليست باليسيرة هنا، حيث كان تجهيزٌ ونفخٌ لأطواقِ وستراتِ النجاة، والعجلات البلونية الشخصية، وكذلك تركيبٌ ونفخٌ وتجهيزٌ لل"بلم" المُعد لنقلنا عبر البحر.

[لحظاتٌ حاسمة]
أشرقت الشمس وطلع النهار، وخرجنا من ذلك القبو المُوحِش، لنَجِد أنفُسنا أمام شاطئٍ كبير ينتظرنا لتبدأ رحلتنا الخطيرة.
في لحظاتٍ حاسمةٍ، وخوف، وقلق، ركب الجميع بلا تردد بهذا "البلم" (وليد) اللحظة، لنُبحر عبرَه في خلجات البحر، مُتلاطِم الأمواج، متسارع الضربات، تحت سماءٍ تُمطر، وفي جوٍ شديد البرودة، كلُّ تلك الأمور أجبرت السائق على السيرِ ببطءٍ، دون أدنى سرعةٍ من شأنها أن تَجعلنا في لحظات في جوف البحر.

[وصولٌ منشود]
ما يقرب من 45 دقيقة داخل الماء، حتى وصلنا شواطئ الجزيرة المُرادة، وصلنا إلى الأرض التي يُعاني الآلاف أضعاف تلك المعاناة التي ذكرنا للوصول إليها، وصلنا والفرحة تغمُر الجميع بالسلامة والعافية، ما لَبِثنا قليلاً من أجواء الفرح، حتى وجدنا أحضانَ بيت من بيوت سكان ذاك المكان في استقبالنا، لتتوافد أطقم المساعدة والمنظمات والسلطات إلينا تباعًا.

[ثم ماذا بعد؟ ولماذا؟]
بعدَ رحلةٍ شاقةٍ، تجعلُك تُقاسي وتُعاني عذاب الطريق، وشدّة البرد، وكثرة الخوف، في مغامرةٍ علّها تكون الوحيدةَ أو الفريدةَ في حياةِ صاحبها.
لا شك أنها مغامرةٌ مثيرةٌ ورائعة، رغم أخطارِها، إلا أنه من الواجب أن يسأل كلُّ سالكٍ لها نفسه، لماذا أسلكها؟ وما الهدفُ المنشود من ورائها؟ وهل يستحقُّ ذلك الهدف كل هذه المخاطرة؟
بالطبع تختلفُ إجابةُ كل فرد عن غيره.. فلطفًا بالعِباد!
_____________________
(تجربة شخصية جَرَت أحداثها ليلة ال17 من نوفمبر عام 2018م في بحر "إيجة" بين تركيا واليونان)
{ليلةٌ في طريقِ الهجرة.. مقال من وحي الواقع}
Published:

{ليلةٌ في طريقِ الهجرة.. مقال من وحي الواقع}

Published:

Creative Fields